مقاربات بين الشعبي والفصيح
الشيخ وادي حنيفة يعود إلى الشباب
عبدالله الجعيثن
لا أظن أحداً تحققت له أمنية الشاعر القديم التي عبر عنها بلوعة حين قال:
(ألا ليت الشباب يعود يوماً، فأخبره بما فعل المشيب)
كما تحققت لهذا الوادي العريق العميم الخير (وادي حنيفة) والذي عاش ألوف السنوات وشابت على روافده الليالي وشاخ أوكاد ثم عاد فجأة إلى الشباب بفضل الله - جل وعز - ثم بفضل جهود صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز وسمو نائبه آنذاك المرحوم الأمير سطام لما بذلته (الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، من جهود وأموال وتخطيط لإعادة الشباب لهذا الشيخ العزيز العريق في تاريخه الكريم في عطائه، فاليمامة بكل تاريخها القديم وخصبها السابق كانت هبة وادي حنيفة حيث قامت مدنها وقراها، مزارعها وأشجارها على جانبيه في امتداده الطويل وسخائه النبيل وبيئته التي كانت أنقى من الدر النظيم..
وقد مضى لنا شهور - أنا وصديق عزيز - نذهب إلى متنزه وادي حنيفة أكثر من مرتين في الأسبوع، من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء وغالباً ما نجلس مقابل (سد العلب) في الدرعية، عبر طريق يخترق الوادي العريق بورع، محاطاً بالأشجار وممرات المشاة ومواقف السيارات، أما (الجلسات) المرصوفة على جنبات الوادي العريق فهي (تحفة) في إبداعها واختيار مواقعها واطلالتها ورصفها وتحديدها بالحجر الذي يتناغم مع مرتفعات جبال طويق التي تلوح لنا شامخة في الضفة الأخرى، والتي تضاء ليلاً بشكل رومانسي خافت من أنوار مخفية في كهوف طويق وجوانبه بحيث يتمازج الضوء والظل وتتشكل من الجبل مناظر جمالية ساحرة في هدأة الليل الجميل.
وتلك الجلسات الموزعة على ضفة الوادي الغربية - بحيث يكون المنظر شرقاً - تتلاءم مع بيئة الوادي الطبيعية، وتحاط بسياج من الحجر والشجر يحقق الخصوصية والهدوء للعائلات وتزود بمواقد للنار محفورة في الصخر تنفع في برد الشتاء وفي اعداد ألذ أطباق الشواء.
أما اطلالة الوادي فهي شابة نضرة نظيفة وراقية تتمايل فيها الأشجار البرية بحبور وتتمايل أغصانها مع لمسات النسيم العليل، تزورها الطيور وتحفها النخيل وتعلو جبالها المزارع تلوح خضرتها بما يبهج القلب والعين ويهب نسيمها كالنعيم مضفياً على الجلسات الصيفية أنساً وراحة، حاملاً روائح الأشجار والأزهار البرية، جاعلاً الطيور المحلقة في الوادي جذلى تغني في حبور، من بلابل وعصافير وحمام بري وخواطيف نراها تدور على طول لا تهدأ ولا تستريح فنتذكر ضاحكين المثل الشعبي القديم.
(كثر التعب مازاد في رزق الخواطيف)..
ونستعيد صوت فيروز الجميل وهي تشدو بحبور: (دخلك يا طير الوروار..)!
وحسب موقع الهيئة العليا لمدينة الرياض (فإن وادي حنيفة يمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، ويبلغ طول مجراه حوالي ١٢٠ كم مترا، ويتراوح عمق المجرى من ١٠ أمتار إلى كيلو! ويلتقي بوادي حنيفة عدد من الروافد ومن أهمها وادي الوتر الذي يبلغ طوله ٢٥ كم ووادي الايسن، وأودية العمارية ووبير والقدية ولبن ونمار ولحا والبعيجا وغيرها.. وتقدر كمية المياه المتسربة إلى طمي وادي حنيفة من السيول بحوالي ١٥٠ مليون متر مكعب).
مشتاق لك ياكل مافي بلادي ** شوق الرياض لسيل وادي حنيفة
قلت: وهذا الوادي الفريد هو الوحيد الذي يخترق المملكة من الشمال إلى الجنوب، أما بقية الوديان فمن الشرق إلى الغرب، ومع ان (اليمامة) بتاريخها العريق وقراها القديمة الكثيرة ومزارعها ومحاصيلها الوفيرة (هبة وادي حنيفة) إلاّ ان هذا الوادي موغل في القدم (شابت على أرضه الليالي وضيعت عمرها الجبال) ولا أكاد أشك انه كان نهراً عظيماً في الزمن المطير من تاريخ الجزيرة، قامت على ضفافه حضارات وقد أكد تقرير حديث نشرته ال BBC على موقعها ونقلته جريدة «الرياض» ١٤٣٤/٥/١٨م ان الاكتشافات الأثرية في المملكة تشير إلى حضارة سابقة ازدهرت منذ ٣ آلاف سنة، وان تلك الحضارة هي أول من استأنس الخيل بعد ان كانت برية متوحشة، وذكر مايكل بتراليا أستاذ كرسي عصور ما قبل التاريخ بجامعة اكسفورد ان القطع الأثرية التي تم العثور عليها في المملكة ومنها أحافير لبقايا خيل تشير إلى مرور شبه الجزيرة بفترات مطيرة كانت خلالها ذات أودية خصبة وأنهار وتدل (مساحن طحن الحبوب) إلى حضارة عمرها خمسون ألف عام.. قلت:
وينسب الوادي لبني حنيفة القبيلة المشهورة، وقديماً كان اسمه العرض وذكر ياقوت والهمداني انه قامت حوله حضارات من عهد طسم وجديس، وأنه عرض اليمامة واد كبير يجري في بطنه ٣٠٠ واد روافد، ويذكر المرحوم عبدالله بن خميس ان وادي حنيفة كان في القديم كثير الجريان حتى تشابكت المزارع على ضفافه من العيينة إلى الخرج( تاريخ اليمامة ٥٩/١ )وفيه يقول ذاكراً الدرعية وأمجاد توحيد المملكة:
لها السيف من وادي حنيفة مصلت
تناغيه أبطال حماة بواقع
إذا سمعوا (العوجا) تداعوا كأنهم
ظمأى دعتها للورود شرائع
هم القوم إن يدع الوفاء فإنهم
ذووه وإن يدع الوغى فطلائع
إلى الراية الخضراء تهفو قلوبهم
لهم معمعان حولها وتدافع
ويقول قاسي المتلقم:
أتاها ضنى بالليل براق
على دار مروية الرهيفه
إلى جا لبراقه تشعاق
لعله على وادي حنيفه
ويستغيث ناصر العريني راجياً ربه ان يفيض الوادي حتى يخض العسبان ويفرح النخل والحمام ومن يمشي ويرى:
ووادي حنيفه مد حبل الرجابه
جمه على الطيه يخضه عسيبه
حتى النخل يشتاق حي مشى به
باطراف سبحاته نتوح الربيبه
اقتراح للهيئة العليا لتطوير الرياض
يعتبر إنجاز الهيئة في وادي حنيفة مفخرة، وهو متنفس عظيم لسكان الرياض ويسهم في السياحة وتنقية البيئة، ومن واقع ترددي على هذا الوادي الذي أحبه منذ الصغر اقترح على مقام الهيئة الكريم ان تؤجر مواقع مختارة من ضفة الوادي الغربية على أشهر المقاهي والمطاعم، بحيث يكون هناك جلسات داخلية واجهاتها على الوادي زجاج، وأخرى خارجية، فيكون متنزهاً متكاملاً في مختلف الأجواء، وان توضع مواصفات جمالية لتلك المرافق، لأن باعة اللحوم والخضار والمرطبات يتواجدون بسيارات قديمة نهاية الأسبوع بشكل مزعج ومشوه..
كما ان كثيرين لا يحافظون على نظافة الجلسات، رغم وجود حاويات النفاية في كل جلسة، السبت ذهبت مع صديقي فوجدنا جلستنا المفضلة مليئة ببقايا البصل والثوم والمناديل والنفايات مع الأسف، اقترح فرض غرامة على كل من يترك أو يرمي أي مخلفات، فالحاويات متوافرة، ولكن الشعور بالمسؤولية معدوم عند البعض مع الأسف، ولا يقومهم إلا قوة النظام.
إننا نتطلع بكل الاحترام والاستبشار لصاحب السمو الملكي الأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز وسمو نائبه الكريم الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالعزيز في تواصل الإنجاز التاريخي وتكثيف أماكن الترفيه البريء في الرياض الحبيبة لبهجة العوائل والشباب في هذه المدينة الشامخة التي نفاخر بهما بين المدن والأمم.
إن وادي حنيفة بطلته الجديدة وحلته الجميلة أكثر من متنزه وأكبر من ترفيه.. ترى في فضائه الرحيب آثار المجد التليد.. وتسمع في أصدائه همسات التاريخ العريق.