أخصب أرضٍ ما وطئته قدم الحبيب..

يسقيكء يا روضٍ وواد وَطَتء به!

أخصب أرضٍ ما وطئته قدم الحبيب..



عبدالله الجعيثن
الحُبُّ يُعَلِّم مكارم الأخلاق، الحُبُّ الشريف العفيف، فحين يحب الرجل ترق مشاعره ويتعامل مع الأحياء والأشياء بمودة، ويتعاطف مع ذوي المواجع، ويهتز للمكارم، ويعشق الجمال في الأقوال والأفعال، على الأقل لكي يُذكر عند حبيبه بخير، ويوصف بجميل الأخلاق:
ويهتزُّ للمعروف في طَلءب العُلا
لتُحءمَدَ يوماً عند ليلى شمائلُهء
كما يقول الشاعر القديم..
والجاحظ يقول:
"ترى الأعرابي ظاهرُهُ ظاهرُ الجفاء، فما هو
إلاَّ أن يعشق حتى تراه أرقَّ من الماء وألطف
من الهواء"
ويقول الإمام ابن القيم في كتابه (الجواب الكافي):
"العشقُ يُشَجِّعُ جَنَان الجبان، ويُصَفِّي ذهنَ
الغبي، ويُسَخِّي كفَّ البخيل، ويُسَكِّن نوافر الأخلاق"
ويقول البَهاءَ زهير:
"لامَ في الحُبِّ أُناسٌ
وهو أخلاقُ الكرام
قلت: الحب الشريف العفيف الذي هدف صاحُبهُ الزواج.. الحب النقي لا ريبة فيه ولا عبث ولا يهم صاحبه بسوء..
وأمامنا اليوم (سامرية حب) للشاعر منصور المفقاعي:
"البارحه برق سرى واجنَبَتء بهء
هلَّتء مخاييله على مسجد العيدء
وَجءدي على هاك المنازل غدتء بهء
اقفا مع الأشواق معلوم ويزيدء
اشفق على شوفه وقلبي صَفَقء به
مَذكر حلو الوفا والمواعيد
ياما نوى قلبي وياما نوت به
(....) مزبَّرات مغاريدء
يسقيك يا روض وواد وَطتء بهء
اعيش بالذكرى ولو قالوا بعيدء
وان جابها الله والقدم سيَّرتء بهء
لاقولء يا حظَّ الهنا حظي سعيدء
حتى عيوني من الغلا رحَّبَتء به
مير البلا بعده، وانا البعد ما أريد"
المصدر: ديوان السامري والهجيني للأستاذ محمد بن عبدالله الحمدان، ص
49.إن الأعراب في قديم زمانهم وحديثه، كانوا يعيشون مآسي حب متلاحقات: لا يكاد الأعرابي يحب في صحرائه النقية، فتاة جميلة، وتأخذ بمجامع قلبه، ويخطط للزواج منها على سنة الله ورسوله، حتى يفاجأ ذات ليل أو صباح، أن أهلها شدوا من مكانهم، وطبعاً أخذوها معهم، إلى حيث لا يعلم، إلى مكان مجهول، فالبدو في حلّ وارتحال، يقصدون مواقع القطر، وينصون الكلأ والعشب، ويرحلون فجأة من المكان، بلا خبر ولا استئذان، فلا يعرف لهم درب ولا عنوان، ولم يكن هناك عناوين في الصحراء، فضلاً عن هاتف أو جوال، لم يكن هناك إلا حلٌّ وارتحال في صحراء أو سع من صدر الحليم، وعشاق يُفجعون برحيل الأحباب، ويسفحون العواطف والدموع، ويبكُونَ على الأطلال:
لا تقُلء دارُها بشرقي نجد
كُلُّ دار للعامرية دارُ
مساكين أجدادنا في حبهم، وفي حلهم وترحالهم، لا يكاد الفتى يحب الفتاة، وتشغف قلبه، وتملك أمره، ويخطط للزواج منها، حتى يرحل أهلها بها فجأة، فلا يجد إلاَّ بقايا مساكنهم،
أما هم فقد ذهبوا مع الريح!
وشاعرنا من هؤلاء الذين أحبوا، بل هاموا حباً بفتاة، ثم استيقظ ذات صباح فإذا أهلها قد شدوا بليل:
وجدي على هاك المنازل غدت به
اقفا مع الاشواق معلوم ويزيد
ومنصور المفقاعي رقيق الشعر، جياش العواطف، منتقى الألفاظ، فلفظة (وجدي) في أول البيت مشحونة باللهفة والشوق وبالشجن والأسى، وهي أفضل بكثير من تعبير (ياتل قلبي) والمنتشر في الشعر الشعبي القديم..
ومنصور شاعر مبدع وإن لم أقرأ له غير قصيدتين، فالجواب واضح من عنوانه كما يقال، ويكفيك ان تذوق من القدر الكبير ملعقة لتعرف جودته، ولا أدري هل لمنصور ديوان مطبوع أم لا؟ كل ما ادريه ان قصيدته (يا حبيبي حكمت) من روائع الشعر الشعبي ورائقه، وقد غناها طلال مداح - رحمه الله - ومحمد عبده، وكان صوت طلال - في هذه الأغنية بالذات - أجمل بما لا يقاس:
يا حبيبي حكمت وخل حكم عدال
سو بي ما تشا وافعل ما تريد
الله اللي عطاك وصورك بالجمال
فارق بالبها والملح فرق بعيد
من تجي راس ماله ما يبي راس مال
إن حيا جنته وان مات يكتب شهيد
آه من فات عمره ما اغتنى بالوصال
راح عمري بلاش وعشت عيشة شريد
ليت من ينهبه يا سعود ذاك الغزال
ثم يزبن عليهم مثل زبنة رشيد
جل من صورك وكملك بالكمال
اشهد اللي ينالك ذاك حظه سعيد
يا حسين البها ما عاد في احتمال
باح صبري وحبك كل يوم يزيد
ساهرات عيوني فيك طول الليال
باكي واتذلل كود فيكم يفيد
لقد عرضنا هذه القصيدة الجميلة قبل، وهي تستحق الإعادة والحفظ، وذكرنا الخلاف حول شهادة من مات عشقاً، ورأى الإمام ابن القيم بأن من عشق فعف تقوى هو كذلك إن شاء الله.
وقول منصور المفقاعي:
يسقيك يا روض و واد وطت به
اعيش بالذكرى ولو قالوا بعيد
يمثل العربي فالدعوى بالسقيا فيها اريحية ووجد، وذكر (روض.. وواد) بصيغة (النكرة) لأنه لا يدري اي روض او واد حلت الحبيبة.. كل ما يدريه انها قد رحلت، وأنه سوف يعيش على الذكرى، ذكراها مهما بعد بها المكان..
ويذكرني مشي الحبيب في الروض بقول الشاعر:
تضوع مسكاً بطن نعمان إذ مشت
به زينب في نسوة حفرات
ومشي المعشوق من أجمل ما يرى العاشق، يقول البحتري:
ومهزوزة هز القضيب اذا مشت
تثنت على دل وحسن قوام
أحلت دمي من غير جرم وحرمت
بلا سبب يوم اللقاء كلامي
وشاعرنا يدعو ان يمطر كل واد وروض مشت به الحبيبة!.. فقد أسعدته وشغفت قلبه حباً وملأت عينيه جمالاً.. وسيظل وفياً لذكراها على القرب والبعد، والذكريات تبقى رغم انف العاشق، كل عاشق، فإن حباً ملأ الرحب وملك القلب لا يمكن ان يزول مع غياب الحبيب، ولا يمكن ان ينسى مع الفراق، بل يظل ذكرى كلما خطرت حن القلب وتمنى..
وقلوب العرب كلها حنين، لا يكاد العربي يحب في الزمن القديم، ويتمكن في قلبه الحب، حتى يرحل حبيبه مع أهله لمنزل آخر، أكثر خصباً، فلا يبقى للعاشق المسكين إلا الذكرى، ومكان اقامتهم السالف، وقد عاد خالياً، وبعد فترة سيبدو أطلالاً، ولكنه مكان له في الروح مكان، وأطلال تهز القلب مهما نهبها الزمان ونثرتها الرياح:
"ولقد وقَفءت على ديارهمء
وطلولها بيد البلى نهءبُ
فبكيت حتى لجَّ من تَعَب
نضءوي وعجَّ بعذءلي الرَّكب
وتلفتتء عيني فَمَذء خفيتء
عني الطلول تلفَّت القلب"
سلامة قلبك وقلوب كل العاشقين!
@ @ @
ومع الاختلاف يذهب شاعر آخر أبعد مما ذهب إليه شاعرنا الذي يقول:
"يسقيك يا روض وورد وَطَتء به"
فيذهب إلى أن كل ما وطأته قدم الحبيب يتحول إلى ورد.. وفُلّ.. وياسمين.. وربيع.. وباختصار إن الخصب حيث يوجد الحبيب.. ولو كانت الأرض جديبة.. وإن الجدب حيث يغيب الحبيب.. ولو كانت الأرض خصيبة..
وهذا هو المعنى في نفوس العاشقين إلى أبد الآبدين..
يقول الشاعر الفارسي "جلال الدين الرومي" في مشاعر حب ترجمها عباس محمود العقاد:
"أيُّها السائح الذي طوَّف في الآفاق، وشهدت عيناه أخصب أرض تفيض فيها الأنهار، وأنضر مروج تتفتح عليها الورود.. قل لي بربك: أي بلاد فيما رأت عيناك هي أجمل البلاد؟!
".. أيتها الحسناء:
أتريدين أن أدُلَّك على البلد الذي يفوقُ بجماله كل جمال؟ ويسمو بمظهره على كل منظر؟
ذلك يا حسناء حيث يقيم الأحبَّاء.. فأ خءصَبُ الأرض التي وطئتءها قَدَمُ الحبيب!"

يعطيك العافيه على الاختيار الرائع

ارجوا نقل الموضوع لقسم الشعر المنقول ..

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اخواني عزوتي

يعطيك العافيه على الاختيار الرائع

أخوي شاكر مرورك الجميل وتعليقاتك الرائعة دمت بود
أخـــــــــــــوك
ألشقـــاوي