عن ماذا يبحث هذا الراعي؟
قراءة - سعود المطيري
ترى ما الذي جعل هذا البدوي يقف هذه الوقفة وهو يجمع بقايا ملابسه البالية ويضمها بقوة إلى صدره ورأسه مرفوع إلى كبد السماء كما يفعل أي صقار وهو يتابع طيره الذي أطلقه على اثر طريدة شديدة المراوغة فمرت من فوق رأسه بعد أن ضايقها اللحاق كمن أراد أن يستجير بالنار من الرمضاء هل هو بالفعل مشدود إلى متابعة عديل روحه وأن ضمه لملابسه البالية على هذه الطريقة ما هي الا نتيجة ردة فعل طبيعية ناتجة عن حالة القلق والتوتر الذي يبديه أي صقار يخشى عدم عودة طيره، قد يقول قائل بان هذا الرجل ما هو الا راعٍ بسيط داهمته غيمة شاردة في الفلاة وهطل عليه المطر بغزارة فتكومت مواشيه حول بعضها واندس وسطها في انتظار توقف المطر وحالما مضت الغيمة بعد أن صبت الماء بغزارة كما يتضح في الصورة حتى ظهرت الغدران وبدت الأرض صابونية الشكل كما لو كان المطر قد توقف لهذه اللحظة أو أن لا يزال له بقايا حتى لو ظهرت الشمس كما هو واضح من الظل الباين على الرجل والمواشي والأشجار وعلى كامل المساحة التي غطتها الصورة والذي يحدد أيضا وقت التقاط الصورة الذي يبدو ان ذلك كان منتصف النهار. فوقف هذا الرجل وقفته تلك وهو يراقب لحظة انجلاء السحاب عن مجال تغطية قرص الشمس الذي سيمدهم بالدفء خصوصا وان كل المعطيات ترجح أن يكونوا في منتصف الربيع – المطر – الملابس الثقيلة – امتلاء جسم الرجل إلى حد
ما. مقارنة بمعدل قياس الأجسام لتلك الفترة وذلك لأن القاعدة في الصحراء، أنها متى ما سمنت المواشي سمن أهلها وامتلأت أجسامهم بالصحة والطاقة التي يختزلونها لأشهر الصيف الساخنة كما يختزلها الجمل في سنامه حتى يتغذى منه صيفا.
دعونا من هذا قليلا وتعالوا نتمعن الصورة مرة أخرى. ولا بد أنكم لاحظتم أن الرجل ينتعل (زربولا) واحدة في قدمه اليمنى إذا ما استبعدنا أن تكون لفافة جرح أو جبيرة قدم، وهذا يفتح مجالات واحتمالات أخرى. أحدها أن يكون الرجل يبحث عن طائر بالفعل وانه قد غفل عن حذائه فانقض عليها أحد الجوارح واختطفها إذ أن أكثر الأحذية تلك الفترة كانت عبارة عن جلد حيوان ميت تلف أو تصنع بطريقة بسيطة وعلى نفس الطريقة التي نشاهدها تلبس بالقدم اليمنى فكانت هذه النوعية من الأحذية أهدافا للنسور والحدآت وأصناف أخرى من الطيور الجائعة كلما غفل عنها أصحابها فتنقض عليها وتخطفها مع أي فرصة ثم تحلق بها بعيدا فلا يبقى لصاحبها سوى متابعتها بمشاعر تتنازعها الحيرة والأمل وهو لا يستبعد أن تعجز عن مواصلة حملها فتتخلى عنها بعد قليل وتلقيها.
قد يقول قائل بأن الرجل قد طلب منه أن يقف وقفة شموخ تعبر عن رجل الصحراء فبالغ في مد عنقه وقد يقال بأنه كان يشيح بوجهه عن آلة التصوير لحظة التقاط الصورة تعبيرا عن عدم الرضا لأن ذلك يعد شيئا نادرا ليس في الصحراء وحسب بل في جميع أرجاء جزيرة العرب خصوصا أن من كان يلتقط الصورة امرأة غريبة يغلب عليها مظهر النبل والارستقراطية وهذا أيضا يفتح مجالا أوسع من التخمين فيما لو كان الرجل قد ربط قدوم هؤلاء الغرباء بحدث بدأ يلف المنطقة كان غاية في الأهمية لم يبقَ صغير أو كبير الا وعلم عنه أو سمع به.
فلحظة التقاط هذه الصورة بواسطة المستكشفة وعالمة الآثار الانجليزية مستشارة المندوب السامي البريطاني في العراق (الخاتون) جيرتودبيل سنة 1914 م كانت شرارة الحرب العالمية الأولى قد اندلعت وكانت أطراف الجزيرة العربية بما فيها أرض العراق والشام وشمال شبه الجزيرة قد أصبحت مجالا لمرور الطائرات الحربية بسبب العداء التاريخي بين دولة العثمانيين وروسيا وهذا قبل أن تغير طائراتها على الجبل الأسود.
ومع مشاهدة الطائرات والحوامات الحربية لأول مرة في هذه الأماكن شبه النائية شاع بين الناس أن كل طائرة من هذا النوع تحمل (دانات) يعتبرها بعضهم قنابل انشطارية فيما يتصورها آخرون على شكل كرات صغيرة من الرصاص تلقيها الطائرة من ارتفاع شاهق على رأس الراعي أو الطفل وما سواهم فتخترق هامة رأسه وتخرج من أسفل جسده وهي قناعة ترسخت في أذهانهم رغم ما يبديه عقلاؤهم أن قيمة قنبلة تلقيها طائرة على هذا الشكل تعدل في حساباتهم قيمة قرية أو قطين بادية بأكمله. ومع ذلك كانوا يتراكضون وهم في حالة هلع كلما سمعوا صوت طيارة ليختبئوا عنها.
بقي وفي حال عدم قناعتنا بكل ما جاء من خلال هذه القراءة التخمينية وفيما لو اكتشفنا مثلا أن الصورة التي لم تضع عليها (المس بيل) شرحا مثل كثير من صورها. قد سبقت بدء الحرب التي انطلقت منتصف تلك السنة (1914 م) علينا في هذه الحالة أن ننوي أن الرجل قد أخّره الوقوف معهم فتأخر عن صلاة الظهر ثم رفع رأسه للتأكد من الوقت